(١)
سكون حالك يخيّم على المكان، لا يُرى فيه شيء، حتى اشتعلت فجأة نيران على جانبي القاعة. ليست غرفة كما قد يُظن، بل قاعة عرش، غارقة في الظلمة، طويلة كدهليز لا نهاية له، تكتسي جدرانها بالسواد.
على جانبيها، تقف أجساد نارية، مهيبة ومخيفة، تكتسي بعباءات سوداء كثيفة، وخلفها، تبرز رؤوس بشرية معلّقة على الجدران، بعيون متجمدة في لحظة رعب أبدي.
وفي نهاية القاعة، ينتصب العرش. عرش مريع المنظر، صنع من عظام بشرية تراصّت فوق بعضها، وغُطيت بجلود آدمية، وعلى ظهره قرنان عملاقان، لا يُدرى إن كانا لماموث منقرض أو ديناصور نُسي عبر العصور.
يدخل الكائن. أضخمهم حجمًا. كأنّ النار تجري في عروقه، وعباءته الحمراء الداكنة تخفي معالمه. وما إن دخل حتى خرّت له الكائنات ساجدة بصوت واحد:
"عاش سيدنا، صاحب العرش المقدس."
جلس سيد العرش على مقامه، وأشار بيده إلى أحد أتباعه قائلاً:
"دَحلان."
دَحلان: "أمر مولاي، صاحب العرش المقدس."
صاحب العرش: "لقد أتمّت حفيدة الإنسي المسمّى عثمان عامها الثامن عشر. اذهب، وأعِنها على استخدام المفتاح. لقد آن أوانها لتكمل ما بدأه جدّها."
انحنى دَحلان بخشوع وقال:
"أمر مولاي."
---
(٢)
ملك سعيد عثمان
أتمّت عامها الثامن عشر قبل أيام قليلة. اليوم، تذهب إلى الجامعة بصحبة صديقتها رنا، وقريبتها المتحفّظة سحر.
كانت رنا تحب ملك حبًا جمًّا، بينما لم تكن سحر تُخفي كراهيتها لها؛ ربما كان ذلك بدافع الغيرة، فملك تنتمي لعائلة ميسورة.
انتهت الفتيات من محاضرتهن، وجلسن بانتظار المحاضرة التالية.
سحر: "شوفتوا دكتورتنا عاملة إزاي؟ دمها تقيل أوي بجد."
رنا (ضاحكة): "الساحرة الشريرة يا بنتي! --أنا كمان حلمت بيها امبارح، قاعدة وسط أعمال و سحر وبَصّت لي بصة خلتني أقوم مفزوعة. الست دي مرعبة بجد. مش قادرة أتخيل مين ممكن يعيش معاها!"
ملك: "يا بنتي بلاش تنمّر، سيبي الست في حالها. وبعدين، هو إنتي كل يوم بتحلمي؟"
رنا(مازحة): "يعني إيه؟ عشان إنتي ما بتحلميش تقولي لي كده؟"
سحر (بخفة دم مصطنعة): " تعرفو يا بنات بخصوص موضوع الاحلام دا بيقولوا اللي تحلم براجل غريب، تبقى هتتجوز قريب."
رنا: "إنتي عايزة تتجوزي والسلام! قرأت مره في رواية إن لو مسكتي شمعة، وقُدام مراية، وقفلتِ النور، وبصّيتي لنفسك وانتي طالعة سلم بضهرك... هييجي حبيبك يخطفك على بساط سحري. ههههه."
دَحلان (متجسدًا في هيئة إنسية، يقاطع الحديث فجأة): "الكلام دا حقيقي فعلاً، بس مش دايمًا بيكون حبيب."
رنا (مذعورة من عينيه الغريبتين): "إنتي مين أصلاً وبتدخلي في كلامنا ليه؟"
دَحلان: "مش مهم أنا مين. لكن فعلاً، دي طقوس صحيحة. بس مش أي وقت، ومش أي حد يقدر يعملها. يمكن ملك بس، لو كانت الليلة هي ليلة اكتمال القمر."
سحر (باستهزاء): "ليه يعني ملك؟ ما يمكن عشان جدها اللي كان بيتعامل مع اللي ميتسماش وكان ساحر؟"
ملك (بخوف): "أنا هستأذن يا جماعة."
رنا (لاحقة بها): "استني يا ملك... إنتي يا سحر، مش هتبطلي تستفزيها؟!"
---
(٣)
في منزل سعيد عثمان، والد ملك.
كعادتها، تجلس وحيدة في غرفتها، منعزلة عن الجميع، تفكر بكلام الغريبة ذات العيون الغريبة... دَحلان.
تتردد كلماتها في رأسها:
"دي حقيقة فعلاً يا رنا... بس مش شرط حبيب... ومش أي وقت... ملك ممكن تقدر... بس لازم ليلة القمر الكامل..."
ملك (تفكر):
مش ناقصة جنان، دا كلام فارغ...
دَحلان (بصوت في ذهنها):
= طب ولو جربتي؟ هتخسري إيه؟
أنا مش عارفة...
= يمكن تشوفي حبيبك...
مش عايزة... عاجباني حياتي كده.
= عاجباكي حياة العزلة ومعاملة أبوكي؟ اللي شايلك ذنب أختك التوأم من يوم ما اتولدتي؟
...
= جرّبي... مش هتحضري عفريت يعني!
نظرت لهاتفها، فتذكّرت... الليلة يكتمل القمر.
---
(٤)
دَحلان: "لقد بدأتُ تنفيذ أمر مولاي، أيها السيد العظيم."
صاحب العرش: "لا تتعجل... تابعها حتى تتأكد من استخدامها للمفتاح."
ثم يشير إلى أحد تابعيه:
"أحضر لي جدّها."
غندور: "أمر مولاي."
لحظات، ويعود غندور، يجرّ خلفه عجوزًا مكبلًا بالسلاسل... إنه عثمان.
غندور (باحتقار): "قدّم التحية لسيدك، أيها الإنسي."
صاحب العرش (مشيرًا له): "اتركه... كيف حال إقامتك بيننا يا عثمان؟"
عثمان: (صامت)
صاحب العرش: "إلى متى ستلزم الصمت؟ كنت أظنك أضعف من هذا. هل تدري لماذا استدعيتك؟ لأن اليوم هو اليوم الموعود... حين تسمح لنا حفيدتك بالظهور!"
ثم يرفع يده، فتظهر بلّورة شفافة، تُرى من خلالها ملك نائمة على سريرها...
---
(٥)
"ملك تقدر تعملها"
"ليلة اكتمال القمر..."
جملتان ظلّتا تترددان في عقلها حتى نامت، ولم تستيقظ إلا بعد منتصف الليل.
الجميع نائم. نزلت إلى المطبخ بحثًا عن شيء تأكله.
في أحد الأدراج، وجدت شمعة... تذكّرت كلام الغريبة.
أحضرت مرآة، أطفأت الأنوار، واتجهت إلى السلم، ظهرها له... وبدأت الصعود.
درجة... لا شيء.
الثانية... لا أحد.
الثالثة... يا لحماقتي!
ثم... لحظة!
ثمة شخص يقف خلفها... لا، ليس "الحبيب المنتظر"... بل كائن... مخلوق بشع... وجهه محروق...
صرخة تقطع سكون الليل!
سقطت مغشيًا عليها...
نعم... لقد فعلتها.
لقد استخدمت المفتاح.
سمحت لهم بالظهور.
بدأت اللعنة.
---
(٦)
تستيقظ ملك على سريرها. تخبرها أمها أنهم سمعوا صرختها ليلًا ونقلوها بعد أن اطمأنوا عليها.
تزورها رنا لتطمئن عليا.
رنا: "ألف سلامة، طنط قالت إنك مش نازلة الجامعة؟"
ملك: "إنتِ السبب!"
رنا: "ليه؟ حصل إيه؟"
ملك: "جربت موضوع المراية."
رنا: "إنتي بتهزري؟!"
ملك: "أنا شفت حد... كائن... مش بشري... وشه مخيف!"
رنا: "هاهاها، يعني عملتيها بجد؟ دا هزار تقيل بصراحة..."
ملك: "مش هزار! ولم..."
رنا: "مالك؟ سكتّي ليه؟!"
ملك (بهمس): "في حد... حط إيده...في حد معانا في الاوضة ."
رنا (مرعوبة): "مين؟ مفيش غيرنا!"
ملك(بدموع): "في حد معانا... بيقول لي اسكتي... عشان ما يأذكيش... حاضر، هسكت..."
رنا: "ملك؟ إنتي بتخوفيني... قوليلي إيه اللي بيحصل!"
ملك (تصرخ): "اطلعي برّا! ما تجيش هنا تاني!"
صرخة تهز المكان... تكسر زجاج النافذة!
هرعت رنا إلى مايسة، والدة ملك التي كانت تجلس مع زوجها ، وحين صعدوا، وجدوا ملك تطير في الهواء، تصرخ بجنون، وجناحين من الظل يخرجان من ظهرها...
أُصيبت أمها برعب شديد، وفهم سعيد ما يجري. أغلق الباب عليها، وطلب من رنا المغادرة، محذرًا إياها من الحديث عما رأت.
---
خاتمة الجزء
في منزلٍ مجهول، يجلس عجوز على سريره يقرأ كتابًا. يرنّ هاتفه .
العجوز: "ألو؟"
المتصل: "ملك استخدمت المفتاح... ودَحلان ظهر لها."
العجوز: "متأكد؟"
المتصل: "أكيد. مبقاش في وقت. لازم تجهّز سارة."
العجوز: "بس هي لسه..."
المتصل: "مفيش لسه... نفّذ الأمر."
العجوز: "حاضر... أمرك."
لكلٍّ منّا شهوة، ولكلٍّ منّا حكاية...
عن شهوة العقل أحدّثكم،
لكنّ الحكاية لم تبدأ بعد.
أعزائي، إني بكم أسعد، ولكم قلبي يطرب.
---
شتاء عام 1984
في قصر عتيق يملكه خواجة إيطالي مقيم بمصر، وفي إحدى ليالي الشتاء القارس، كان السكون يلف المكان.
عثمان: هو فين شكري يا عم إبراهيم؟
إبراهيم: قاعد برا يا ابني عند البوابة. الخواجة موصي عليه ما يسيبش مكانه.
(ينظر إليه بابتسامة ويكمل) بقولك إيه يا عثمان؟ ما تعملنا كده براد شاي سخن واطلع بينا نقعد معاه. نرغي شوية، ونتعرف على بعض، حاكم إنت لسه جديد ولسه ما اندمجتش معانا. والليل طويل... طويل ومابيخلصش في الشتا.
عثمان: من عيوني يا عم إبراهيم، اسبقني انت وانا هحصلكم.
خرج إبراهيم وجلس مع شكري عند البوابة، بينما انشغل عثمان بإعداد الشاي. فجأة، لفت انتباهه صوت غريب قادم من المخزن الملحق بالمطبخ. صوتٌ كأنما ينبض خلف الجدران.
دخل عثمان المخزن بتردد. لم يجد شيئًا يثير الريبة سوى قطعة قماش كبيرة معلقة على أحد الجدران. لم يعطها اهتمامًا، وهمّ بالخروج، لكن الأصوات عادت من جديد. هذه المرة كانت أكثر حدة، كأنها تخترق أذنيه. وضع يديه عليهما محاولاً حجب الصوت، لكن دون جدوى.
الصوت: تعال يا عثمان...
عثمان (مرتبكًا): مين؟... مين بيتكلم؟... أنا بحلم؟ دا صوت حقيقي ولا خيال؟ انت مين يا جدع إنت؟!
الصوت: قرب من الحيطة دي... وشوف بعينك... هتفهم كل حاجة.
تسللت الكلمات إلى داخله كما يتسلل البرد إلى العظام. دون وعي، اقترب عثمان من الجدار، وأزاح الستارة القماشية الثقية
......و.
كلمات منقوشة على الحائط بلغة لا يعرفها، غريبة لا تشبه أي شيء رآه من قبل:
ⵜⴰⵡⵡⵓⵔⵜⴰⴳⵉ ⵜⴻⵜⵜⵡⴰⴳⴷⴻⵍ ⵢⴻⵔⵏⴰ..ⵜⴰⵡⵡⵓⵔⵜⴰⴳⵉ ⵜⴻⵜⵜⵡⴰⴳⴷⴻⵍ ⵢⴻⵔⵏⴰ ⵍⵅⵉⵔⵉⵙ ⵢⴻⵜⵜⵡⴰⵃⴱⴻⵙ ⴰⴽⴽⴻⵏ ⵓⵔ ⵢⴻⴽⵛⴻⵎ ⴰⵔⴰ ⵖⴻⵔ ⵓⵎⴰⴹⴰⵍⵏⵏⴻⵖ ⴰ ⴱⴰⴱ ⵏ ⵢⵉⴷⴰⵎⵎⴻⵏ ⵉ ⵜⴻⴱⵖⵉⴹ, ⵅⴻⵎⵎⴻⵎ ⴰⵟⴰⵙ ⵓⵇⴱⴻⵍ ⴰⴷ ⵜⵃⴻⵎⵎⵍⴻⴹ, ⴷⴻⴳ ٦
.
(السطور كأنها تنبض بالحياة، تهمس وتحذر وتنذر، بلغتها المجهولة.)
في الخارج، كان إبراهيم وشكري جالسين أمام بوابة القصر.
شكري: عثمان اتأخر... هو فين يا عم إبراهيم؟
إبراهيم: سيبته بيعمل براد شاي.
شكري (بتوجس): سايبته لوحده في المطبخ؟!
إبراهيم (بابتسامة ساخرة): هو مش الطباخ يعني؟! كنت عايز أسيبه فين، في الجناح الملكي مثلاً؟!
وفجأة، أرعدت السماء، ومضى البرق كأنما شقها نصفين. صرير الرياح عصف بالأبواب.
نهض شكري فجأة كمن لدغته النار.
إبراهيم: مالك؟ في إيه؟!
شكري (لاهثًا): في كارثة... كارثة ولازم ألحقها فورًا!
---
الجزء الثاني: بداية النهاية
حين تدفعنا الأحداث إلى أماكن ما كان يجب أن نكون فيها...
حين يسحرنا الفضول فنكشف الغطاء عمّا خُفي عنا...
حين يُصبح المرء عبدًا لفضوله، غير قادر على كبحه...
عندها فقط... تكون بداية النهاية.
---
(١)
منذ أن رأت ملك "دحلان"، تغير كل شيء.
وكأنها — دون أن تدري — قد سمحت له بالظهور... سمحت لعالم آخر أن يتجسد، أن يفرض وجوده على واقعها.
كان ظهوره بداية لانقطاعها عن كل شيء..... الطعام، الشراب، وحتى صوتها الداخلي.
باتت تجلس وحدها، تهمس لنفسها، أحيانًا تنصت كأن أحدهم يهمس لها... أحيانًا تنتفض وكأن كهرباء سرت في جسدها... نوبات غريبة، ليست صرعًا، بل شيء آخر، أبعد وأعمق وأخطر.
مايسة، أمها، حاولت كثيرًا... لكنها فشلت.
وفي إحدى الليالي، كانت "ملك" في حمام غرفتها، تشعر بوجود أحدهم خلفها.
نظرت في المرآة... لم يكن خلفها... بل أمامها.
لم يكن نفس الكيان الذي ظهر حين كانت "رنا" معها...
لا، هذا مختلف.
تراجعت "ملك" بخطوات مرتجفة، لكن يدًا خفية دفعتها للأمام، لتبقى حبيسة انعكاسها.
صرخة ملأت القصر، هزّت جدرانه من شدتها.
ثم... سكون.
---
(٢)
رنا: خير يا طنط، طمنيني عليها.
مايسة (بقلق): جبت شيخ اسمه أيوب... راجل طيب ووشه فيه البركة. يمكن ربنا يجعل الفرج على إيده.
رنا (ساخرة): طنط؟! دا شكله نصاب ودجال
لكنها لم تُكمل سخريتها... فقد رأت أيوب، شيخًا أصلع الرأس، كث اللحية، يرتدي جلبابًا مهترئًا، يتمتم بكلمات غير مفهومة، يضع يده على رأس "ملك"، ثم يرش ماءً أزرق اللون في أرجاء الغرفة.
مايسة (متوسلة): طمّني، يا شيخ أيوب.
أيوب (بصوت متصنع): بنتك رايدها روح... مش أي روح... دا واحد من ملوك الجان!
صرخت "مايسة": يا مصيبتي! بنتي بتروح مني! أرجوك... أرجوك خلصها!
أيوب: سبيني لوحدي معاها، وبعون الله هخلصها منه... وهحرقه!
مايسة (بحماس): حاضر بس ارجوك تساعدها
أيوب (بهدوء عجيب): أنا ما باخدش ليّا... اللي باخده... ليهم.
خرجت "مايسة" و"رنا"، رغم رفض الأخيرة، فهي لا تطمئن للرجل.
ورغم سخريتها الأولى، إلا أنها الآن متأكدة أن الرجل لا يكذب... لكنه لا يعلم حجم الكارثة.
هي تعرف أن "دحلان" معهم. تعرفه جيدًا.
ابتسمت ابتسامة باهتة، لأنها تعلم ما الذي سيحدث الآن.
---
في الداخل، دحلان يقف أمام "أيوب".
دحلان (بهمس مميت): ستحرقه؟... متأكد؟
أيوب (يرتعد): مين... مين انت؟
ملك (بهمس مرتجف): انت مش شايفه؟!
أيوب: شايف مين؟!
ملك (بصوت يكاد ينكسر): أنا شايفاه... ساعدني، بالله عليك ساعدني...
أيوب يحاول النظر حيث تشير "ملك"، لكن لا يرى شيئًا.
وفجأة، صوت جهوري مرعب:
دحلان: لن تراني أيها الإنسِيّ... هي فقط من نالت هذا الشرف!
هي من ترى، هي وعاء مولاي وسيدي، ملك الجان وصاحب العرش المقدّس!
تجمد الدم في عروق "أيوب".
حاول الهروب... لكن دحلان أشار، فأغلق الباب!
رفعه في الهواء، رأسه للأسفل، قدماه للأعلى...
دحلان (بصوت جليدي): أخبرني... كيف ستحرق سيدي؟!
أيوب (يبكي ويصرخ): السماح! أنا غبي! أنا نصاب! والله العظيم أنا نصاب، ماعرفش أعمل حاجة... ارحمني!
دحلان (ساخرًا): إذًا لا تقدر... أليس كذلك؟
أيوب (مرتجفًا): صحيح... صحيح، ورحمة أبويا صحيح...
دحلان (يضحك بوحشية): تبا لك أيها الإنسي الضعيف... ارحل، ولا تجعلني أراك مجددًا!
تركه، ففر هاربًا، يقابله "شكري" عند باب القصر، فينظر له بحزن ويهمس: "مسكين... عقله طار."
في الداخل، "ملك" كانت منهكة، و"دحلان" ما زال هناك.
اقترب منها، اقترب جدًا...
كانت تغمض عينيها... تظن أن في الإغماض نجاة...
لكن صرخ!
فتحت عينيها فجأة، فإذا به أمامها، يحدّق فيها كأنما يسبر أغوار روحها.
دحلان: (بصوت رخيم) "لأنك الوعاء... أنتي المختارة... أنتي مفتاح الختم... يا إنسية!"
لم تعد تسمع... لم تعد تقاوم... سقطت، وغرقت في نوم عميق لا صحوة فيه.
---
(٣)
في بستان غارق بالأزهار، والهواء يداعب وجهها، جلست سارة بين الزهور. جميلة… حقًا، كانت جميلة. بعينيها العسليتين، بشعرها الأسود الناعم، وبابتسامتها الدافئة التي لم تفارق وجهها.
هكذا رأتها ملك. لم تكن تعرف من هي، ولا ما هذا المكان، لكنها شعرت بالطمأنينة لمجرد وجود تلك الفتاة.
اقتربت منها وسألتها:
– أنتي مين؟
أجابت سارة بابتسامة لم تغادر شفتيها:
– أنا سارة… يا ملك.
– أنتي تعرفيني؟
– أيوه، وبشوفك دايمًا.
– بتشوفيني فين؟
– في أي مكان بتروحيه.
– احنا فين؟ وبنعمل إيه هنا أصلاً؟
– احنا في حلمك.
– يعني أنا نايمة؟
– أيوه… بقلك كتير نايمة، وكنت خايفة عليكي، وكان لازم أجيلك.
– أنا مش عايزة أصحى… مش عايزة أشوفهم تاني.
– ماينفعش يا ملك… لازم تصحي، ولازم تواجهيهم. أنا عارفة إنه صعب، بس علشان كده أنا هنا.
– أواجههم إزاي؟ أنتي مش شفتي اللي أنا شُفته.
– كل واحد فينا مكتوب له حاجة لازم يعملها… وتواجهيهم بدا (وأشارت إلى قلبها)، دا اللي هتواجهي أي حد بيه.
– أنتي مين؟
– أنا سارة… قلتلك. ووقتي انتهى، لكن أكيد هشوفك تاني. بس المهم إنك تواجهيهم. ومش لازم حد يعرف إني جيتلك.
– حاضر… بس هشوفك تاني، صح؟
– صح… بس لازم تصحي.
(ثم بصوت يتلاشى): اصحي يا ملك… اصحي…
تستيقظ ملك من نومها لتجد والدتها بجوارها، تقول:
– أخيرًا يا بنتي، صحيتي.
---
(٤)
في قاعة العرش، استدعى الملك خادمه دحلان.
– من الذي زار الفتاة الآن؟
رد دحلان:
– لم يأتِ أحد يا مولاي.
– بل أتى… شعرت بوجوده، لكنه لم يُرَ. حتى أنت لم تَرَه. إنه موجود… وبكامل قوته الآن.
قال دحلان بقلق:
– مولاي يقصد سيد الأختام؟ إذاً علينا أن نسرع بالاستحواذ.
– ليس هذا فقط… بل يجب أن نعرف من هو، ونتخلّص منه.
– أمر مولاي.
---
(٥)
ربما مرّ يوم أو اثنان على حلم سارة، لكن ملك تغيّرت قليلًا. بدأت تتحدث وتتناول الطعام. تشعر بشيء من القدرة على المواجهة، كما أخبرتها سارة.
قالت وهي تهبط سلالم القصر:
– صباح الخير يا ماما.
مايسة: رايحة فين يا بنتي؟
– هعدي على رنا ونخرج شوية.
– يا بنتي انتي لسه تعبانة، ارتاحي شوية.
– زهقت يا سوسو من القعدة، وبعدين البيت بقى بيجيبلي طاقة سلبية… عايزة أشم هوا.
– طمنيني عليكي أول بأول، وبطلي سوسو دي بقى.
– عنيا يا سوسو، باي. (تضحك وتخرج)
في الخارج، وجدت عم شكري.
– صباح الخير يا جدو شكري.
– صباحك ورد يا ست ملك… وبعدين في جدو شكري دي؟ أبوكي بيزعل يا بنتي.
– سيبك، هو مش طايق ليّ أي حاجة أصلًا. ثم إنك جدو… أنا اتربيت على إيدك، وانت كنت صاحب جدي، يعني زي جدي تمامًا.
– طيب يا ستي، جدو جدو. طمنيني عليكي
ملك :زهقت يا جدي من البيت، بجد حاسه إني مخنوقة... هخرج شوية مع رنا صاحبتي.
شكري (بهدوء وقلق):
خلي بالك من نفسك يا بنتي.
غادرت "ملك" المنزل، بينما ظلت عينا "شكري" تتبعانها في صمت حتى غابت عن ناظريه. ثم قال لنفسه بحزن دفين
صعبانة عليّ يا بنتي... بس ده قدرك، ولازم تعيشيه، مهما كان مين السبب فيه... سامحيني على أي حاجة ممكن تحصل لك بسببي.
---
(٦)
منزل على أطراف قرية ريفية –
في بيتٍ صغير تقيم "سارة" مع جدّها "سليم".
سارة (بقلق): يعني أنت متأكد من الكلام ده يا جدي؟
سليم (بجديّة):أيوه يا سارة، اللي كنت بحذّرك منه... قرب يحصل.
سارة:وإيه ذنب "ملك"؟ يعني مكنّاش نقدر نعمل حاجة من غير ما نأذيها؟
سليم (بتنهيدة): ده قدرها، زي ما هو قدرك تصلحي اللي جدّها عمله. كل واحد فينا مكتوب له نصيبه، يا بنتي.
سارة (بحزن):أنا شُفتها إمبارح في حلمي... وكان معاها اللي اسمه "صاحب العرش".
سليم (مندهشًا):وما قولتليش ليه من بدري؟ شُفتي إيه؟
سارة:الاستحواذ قرب يتم يا جدي... شُفته وهو بيسيطر عليها.
سليم (بقلق):دي علامة... معناها إننا ماشيين حسب الخطة اللي رسمها "شكري".
سارة:وأنا متأكدة من ده... خصوصًا بعد كلام "رنا" لما قالت لك إنها شافت حد بيكلم "ملك" عن "المفتاح". معناها إنهم فعلاً ابتدوا يتحركوا... وفي حاجة تانية... أنا شاكّة إن "رنا" اتكشفت.
سليم:مش مهم دلوقتي... اللي يهم إن الخطة تمشي زي ما "شكري" رسمها، فاهمة؟ كل ده مبني عليكي، وعشان كده قعدتي السنين دي كلها بعيد عن أهلك.
سارة (بغصة):
فاهمة... بس مش من حقي أعرف مين أهلي؟
سليم (بحسم):
هتعرفي كل حاجة في وقتها، يا سارة.
---
(٧)
قاعة العرش
يجلس "صاحب العرش" على عرشه المخيف، وأمامه أتباعه من جنسه. ينطق بصوت جهور: أين "دحلان"؟... أحضروا لي "عثمان".
يظهر "دحلان" وينحني احترامًا.
دحلان:أمر مولاي، صاحب العرش المقدس.
صاحب العرش:هل علمت مكان "سيد الأختام"؟
دحلان:للأسف يا مولاي، ما زال مجهولًا.
وفي تلك اللحظة، يُحضِر "غندور" "عثمان" الجدّ، الذي ظل صامتًا منذ أسره.
صاحب العرش (بتهكم):هل تُعجبك الإقامة معنا، أيها الإنسي؟
ثم يواصل دون انتظار رد:لقد استخدمت حفيدتك المفتاح... واقتربت نهايتها. هل كنت تظن أنك قادر على منع ذلك؟ بقاؤك حيًا حتى الآن لأنني فقط أرغب في أن ترى بأم عينيك اكتمال العهد الذي كتبناه سويًا. وسيموت "سيد الأختام" على يدي، ولن يمنعني أحد. تذكّر جيدًا... بعد الاكتمال، ستكون نهايتك حتمية.
يخرج "عثمان" عن صمته، ويصرخ متحديًا: نهايتك أنت، مش نهايتي! وعهدك هينكسر! ولو فكرت تقتلني... ساعتها انت اللي هتشوف الهلاك!
يشير "صاحب العرش" بغضب، فيجد "عثمان" نفسه أمامه مباشرة.
صاحب العرش (صارخًا): من أنت لتتحدث معي هكذا؟ أيها الإنسي الضعيف!
عثمان (بابتسامة ساخرة): أنا مش ضعيف... أنت اللي ضعيف! بكل قوتك، ومش قادر تفك الختم لوحدك! وعمري ما خنت العهد، عشان كده مش هتقدر تقتلني.
صاحب العرش (بعنف): "غندور"! خذ هذا الإنسي من أمامي فورًا!
---
(٨)
قصر سعيد – منتصف الليل
عاد "سعيد" إلى المنزل ليجد أن "ملك" لم تعد.
سعيد (بغضب):يعني إيه الساعة عدت ١٢ وبنتك برا؟!
مايسة (بقلق):اهدى يا سعيد... كلّمتني وقالت إنها جاية في الطريق. البنت مخنوقة من اللي بيحصل، حاول تحس بيها!
سعيد (بصوت غاضب):ترجع بس... وحسابها معايا!
تدخل "ملك" في تلك اللحظة، وما إن رآها "سعيد" حتى اندفع نحوها، وصفعها بقوة حتى سال الدم من فمها، ثم أمسك بشعرها بعنف، وصعد بها إلى غرفتها.
سعيد (صارخًا):أنا هعلّمك تتأخري إزاي! برا!
أدخلها الغرفة، وأغلق الباب من الخارج، موجّهًا حديثه لزوجته:
سعيد:لو فتحتي لها الباب... تبقي طالق يا مايسة!
مايسة (منهارة):
انت مش بني آدم...مش عيشة دي!
حاولت دفعه، لكنه أمسك بها، ودفعها داخل الغرفة مع "ملك"، ثم أغلق الباب عليهما.
احتضنت "مايسة" ابنتها، تحاول تهدئتها، لكن "ملك" لم تكف عن البكاء، حتى غلبها التعب ونامت.
---
(٩)
وجدت "ملك" نفسها في مكان غريب، غابة موحشة تتوسطها بحيرة من الدماء.
ملك (بذعر):أنا فين؟! إيه المكان ده؟! إيه الريحة دي؟! دم؟
جاءها صوت من داخل عقلها: أنتِ في حلمك... يا ملك.
ملك:مين بيتكلم؟! إنت مين؟!
الصوت:أنا... "صاحب العرش".
ملك:انت عايز إيه؟! أنا عايزة أخرج من هنا!
صاحب العرش:ستخرجين... فأنا أنتظر قدومك
ملك (رافضة):أجيلك فين؟!
صاحب العرش:سأدلك... لا تقلقي.
ملك:وليه أسمع كلامك؟! خلّيني أرجع!
صاحب العرش (بغضب هادر):كلمتي تُطاع! أمري لا يُرفض! حديثي لا يُكرَّر!
ظهر فجأة بهيئته الحقيقية: جسد بركاني، رأس مشتعلة، عينان ناريتان، وقرنان مرعبان.
اقترب منها، فتراجعت لتسقط في بحيرة الدم. امتدت أذرع ضخمة تمسكها وترفعها عاليًا، وهي تصرخ طالبة النجدة.
ظهر أمامها طيف، يُريها مشهد أمها معلّقة في الهواء، و"دحلان" يقف بجانبها يضحك.
صاحب العرش:إن كانت حياة هذه الإنسية لا تعني لكِ شيئًا... فلا تأتِ.
ملك (تصرخ):سيب أمي في حالها! ملكش دعوة بيها!
صاحب العرش:إذن... سأنتظرك الليلة. خادمي سيقودك للمكان.
---
الخاتمة
تستيقظ "ملك" فجأة. تجد أمها نائمة بجانبها. تنهض بتثاقل وخوف... لا تعرف ما ينتظرها، لكنها تعرف أن عليها حمايتها.
"أين أنتِ يا سارة؟ لقد وعدتيني..."
تتبعت "دحلان" بصمت، حتى أخذها إلى مكان الختم...
إلى الجدار القديم، حيث بدأ كل شيء. وهناك، وُجدت النقوش
ⵜⴰⵡⵡⵓⵔⵜⴰⴳⵉ ⵜⴻⵜⵜⵡⴰⴳⴷⴻⵍ ⵢⴻⵔⵏⴰ ⵍⵅⵉⵔⵉⵙ ⵢⴻⵜⵜⵡⴰⵃⴱⴻⵙ ⴰⴽⴽⴻⵏ ⵓⵔ ⵢⴻⴽⵛⴻⵎ ⴰⵔⴰ ⵖⴻⵔ ⵓⵎⴰⴹⴰⵍⵏⵏⴻⵖ ⴰ ⴱⴰⴱ ⵏ ⵢⵉⴷⴰⵎⵎⴻⵏ ⵉ ⵜⴻⴱⵖⵉⴹ, ⵅⴻⵎⵎⴻⵎ ⴰⵟⴰⵙ ⵓⵇⴱⴻⵍ ⴰⴷ ⵜⵃⴻⵎⵎⵍⴻⴹ, ⴷⴻⴳ ٦